شجرةُ الأحلامِ
جَلستْ أمُ باسم تقرأُ الرسالةَ التي وصلت للتوِّ من
زَوجها حسان، وإلى جوارِها ولدها
باسم الَّذي أخذَ يُراقبُها بعينيه. لا شكَ في أنَّ كلمات
الرسالةِ تحملُ التحيةَ والمحبةَ
والشوقَ من الأبِ الغائبِ منذُ أكثرَ من خمسِ سنوات
ولأنَّ الأم تدركُ ما يشغلُ بالَ ولدها الأخرس
فقد كانت تقرأ الرسالةَ وتمسحُ بحنانٍ على شعره
وحين انتهت من القراءةِ نظرتْ إليه
وأَشارتْ بيدها ما يعني أنَّ والدهُ سيعودُ إن شاءَ الله
ضمتهُ إلى صدرها وبكتْ. أَعطتهُ الرسالةَ ليقرأَها فأخذَهَا ودخلَ غرفتَهُ.
مسحتْ الأمُ دموعَها وهي تسرعُ نحوَ البابِ لتفتحهُ بعد أنْ سمعتِ الجرسَ يرنُّ.
إنها صديقتُها ميساء جاءتْ لزيارتِها. جلستا، وسألتها الصديقةُ: ما بكِ يا أم باسم؟ فردتْ: ولدي باسم
أشعرُ بحزنِهِ الدائم بسببِ غيابِ والدِهِ. يرى اهتمامَ الآباءِ بأبنائِهم فيسألني بالإشارةِ: متى يعودُ أبي
ولماذا أنا أخرس؟ وأجيبه بالإشارة أيضاً: والِدُكَ سافرَ ليعملَ وإصابتكَ بالخرس هي إرادة الله
كما أُحاولُ أن أوضح لـه أنَّ العلمَ يتطورُ، وقد يستطيعُ يوماً معالجةَ حالتهِ. باسمُ ذكيٌّ وحساس
قالت ميساءُ: طالَ غيابُ زوجكِ. عليهِ أن يعود ليشاركَ في تحملِ مسؤوليةِ ورعايةِ ولدكما
تابعتْ أمُّ باسم: رسالتُه التي وصلَتْني قبلَ قليل تؤكدُ أنَّه سيعودُ بعد عامٍ
ميساء: كانَ عليكِ أن تأخُذي ولدكِ وتسافري مع زوجكِ
أم باسم: حاولَ حسانُ كثيراً، إلا أنني لا أحتملُ مجرَّدَ التفكير بالسفر
ميساء: وكيفَ ترينَ استجابةَ باسم للتعلمِ في المدرسةِ
أم باسم: أصبحَ يجيدُ القراءةَ والكتابةَ، ويتابعُ قصصَ ومجلاتِ الأطفالِ
ومنذُ أيامٍ كتبَ لي أنَّهُ سيُصبحُ كاتباً في المستقبل. قطعَ حديثَهُما صوتُ جرسِ الباب
هذه المرة كانَ أصدقاءُ باسم (رافع ونجيب وسعد) رحبتْ بهم ودعتْهُم للدخول
إلا أنهم شَكروها، وَرَجوها أن تُرسلَ باسم ليخرُجُوا سوّيةً للعبِ
وبعدَ أن انضمَّ إليهِم غادروا وعادتِ الأمُّ إِلى صَديقتِها
ميساء: ربَّما كانَ من الأفضلِ أنْ تُرسلي باسم إلى مدرسةِ الصّمِ والبكم
أم باسم: لا توجد في قريتِنا مدرسةٌ متخصصةٌ لهم، ولا يمكن أَن أُرسلَهُ إلى المدينة
ثمَّ إنهُ يتعلمُ هنا، فكما قلتُ لكِ هو طفلٌ ذكيٌ، وأصدقاؤُه الثلاثةُ الذين حَضروا الآنَ يحبونَه
وهو يحبُّهُم. إنهم يتعلمونَ في صفٍ واحدٍ، ويلعبونَ سويةً لقد تخلّوا عن
صديقٍ آخرَ لهم لأنهُ سَخرَ من باسم، رغمَ أنَّ ولدي رجاهُم بالإشارةِ أن يسامِحُوه
إنهم يخرجونَ للعبِ في الحديقةِ قربَ بيتنا مُصطحبينَ معهُم أوراقاً
وأقلاماً وذلك بعدَ أن يُتمُوا واجباتِهم المدرسيةَ
ميساء: وُجودُ الأصدقاء والأحبة خيرُ تعويضٍ ومواساةٍ
في الحديقةِ، كانَ الأصدقاءُ الأربعةُ (باسم ورافع ونجيب وسعد) يَجلسونَ قربَ شجرةٍ زيتونٍ
خضراءَ فتيةٍ بعدَ أن مارسُوا ألعابَهم البَسِيطةَ التي ابتكرَ أغلبَها باسمُ وقد اعتادُوا أَن يُمضوا
بعضَ الوقتِ في أحاديثَ شتَّى تتعلقُ بالمدرسةِ، بمعلميهِم وبرفاقِهم، بِأَحلامِهم
الأحلامُ التي لا يملّونَ الحديثَ عنها. ويُرفق الأصدقاءُ أحاديثَهم بإشاراتٍ ليتمكنَ
باسمُ مِنْ فهمها، وأحياناً يكتبونَ حِواراً على أوارقِهِم. وباسمُ الطفلُ الذكيُّ
الذي أتمَّ العاشرةَ من عمرِه يُدركُ الكثيرَ من أحاديثِهم عبرَ حركاتِ الشفاهِ
كتبَ سعدُ: إننا نتحدثُ كثيراً عن أَحلامِنا
ضحكَ وكتبَ نجيبُ: لا أحدَ يعرفُ بأَحلامِنا إلا نحنُ وهذهِ الزيتونةُ الخضراءُ
ورافعُ كتبَ: حديثنا الدائم عنِ الأحلامِ يَجعلُنا نصمّمُ على تحقيقِ ما نستطيعُ مِنها
وكتبَ باسم: أحلامُنا ستكبُرُ كما تكبُر وتنمو هذه الشجرة. ما رأيكُم أن نُسمِّي شجرةَ الزيتونِ
الخضراء التي نُحبها شجرةَ الأحلامِ ويختارُ كلُّ منا غُصناً من أغصانِها ويكتبَ أحلامَهُ
على ورقةٍ ويخبّئَ هذه الورقةَ على الغصنِ الذي اختارَهُ وكلما كبرتِ الشجرةُ تكبُرُ أحلامنا
هتفَ نجيبُ وسعدُ ورافعُ: شجرةُ الأحلام! هذا رائعٌ. ستكونُ أغلى شجرةٍ على قلوبِنا
بعدَها فكَر سعدُ وكتبَ: وإذا هطلَ المطرُ وبللَ أوراقَ أحلامِنا؟
ردَ عليه رافعُ كتابةً: نعيدُ كتابتَها من جديد.
كتبَ باسمُ: حينَ يهطلُ المطرُ هذا يعني أنَّ الشجرةَ ستنمو
وأحلامُنا ستكبرُ. وكل حلمٍ يتحقق سنرسمُ إلى جانبهِ ابتسامة
نجيبُ قالَ وكتبَ: ليتركَ كلُّ منا ورقةً بيضاءَ ليُضيفَ عَلَيها أحلاماً جديدةً
ومع سعادتِهم بالفكرةِ كانَ الأصدقاءُ الأربعةُ يقفونَ، ويُمسكُ كلٌ منهم بيدِ الآخر مشكلين حلَقَةً
وهُم يغنونَ ويَمْرحونَ والابتساماتُ تزيِّنُ وجوهَهم وباسمُ يحركُ شفتيه كأنّما يُشاركُ أصدقاءَه الغناءَ
وبعدَ قليلٍ جلسَ كلٌّ مِنهم وأمسكَ بقلمِه وأخذَ يكتبُ أحلامَهُ. حينَ عادَ باسمُ إلى البيت
لفتَ انتباهَ والدته سعادة تهللَ بها وجهُهُ. سألتْهُ بإشارَتِها وابتسامَتِها، فكتبَ لها عن شجرةِ الأحلامِ
ومنْ كلماتِهِ التي كتبَها شعرتْ أنهُ يعيشُ لحظةَ الفرحِ الكُبرى في حياتِهِ
وتوالتِ الأيامُ، وهَطلَ مطرٌ، وكُتِبَتِ الأحلامُ على أوراقٍ كثيرةٍ
وانضمَّ إلى الأصدقاءِ الأربعة صديقٌ جديدٌ هو عمار يماثلُهم سناً وفي صفهم ذاته
ويكاد يتفوقُ على الجميعِ باجتهادِه. غيرَ أن شللَ الأطفالِ تسببَ
في ضمورِ عضلاتِ رجلَيه وحدَّ من قُدرتِهِ على الحركة
أم باسم تلقَتْ رسائلَ أُخرى، ومَع كلِّ رسالةٍ كانتِ الابتسامةُ تكبُر
فالغائبُ سيعودُ قريباً.. ما هي إلا أيام وأحدُ أحلامِ باسم التي سطَّرها وحَمَلَتْها شجرةُ
الأحلامِ سيتحققُ. ومَع إطلالةِ صبحٍ جديدٍ أيقظَتْ أم باسم ولدها وإِشاراتها جعلتهُ يُدركُ
أنَّ عليهِ الاستعداد للانطلاقِ نحوَ المدينةِ، ثم إلى المطارِ لاستقبالِ والدِهِ الحبيب العائد
في المطارِ ابتساماتُ لقاءٍ، ودموعُ وداعٍ. كانت عينا باسم تجوبانِ أرجاءَ المطارِ
وأمه تقفُ إلى جوارِهِ. فجأةً: رَبتت على كتفهِ وأشارتْ بفرحٍ كبيرٍ نحوَ بوابةِ العبور
حيثُ كانَ أبو باسم يحملُ حقيبةً صغيرةً بيدِهِ ويتقدمُ نحوهما
أسرعَ باسمُ يستقبلُ والدَهُ الذي احتضنَهُ بحنانٍ غامرٍ. طالَ عناقَهُما حتى
تدخلتِ الأمُّ مرحبةً بزوجِها وبعدَ قليلٍ انطلقتْ بهم سيارةُ أجرةٍ نحو قريتِهم البعيدة
بدأَ أهلُ القريةِ يتوافدون إلى بيتِ أبي باسم مهنئين بالسلامةِ، وباسمُ أمضى معظَم
وقتهِ إلى يسار والدهِ وبسمتُهُ تحكي لكلِّ من يراهُ مدى سعادته، بينَما كانتْ أمُّ
باسم منهمكةً بإعدادِ الضيافةِ للزوارِ، نظرَ باسمُ إلى الساعة. إنها الرابعةَ عصراً
قبّلَ والدَهُ وأشارَ إليه ما يعني أنه سيخرُجُ للعبِ مع رفاقِه.لم يدركْ والدُه ماذا يقصدُ
لكنَّ الأم ابتسمت وأشارتْ ما فَهمَ الولدُ منهُ أنَّ بإمكانِه الخروج وأَخذتْ تَحكي لزوجها
عن صداقةِ باسم ورفاقِه وموعدِ لعبهم والفرح الذي يحتلُّ كيانها كلما رأتْ سعادةَ ولدِها بأصدقائِه
فَهُمْ جعلوهُ يعيشُ حياةً طبيعةً متناسياً أمرَ الإعاقةِ التي ألمتْ بهِ، وأكثر من ذلك فهمْ يُشعروهُ
بحاجتِهم لوجودهِ بينَهُم. أبدى الأبُ ارتياحَهُ لما سَمِعَ، ولكنّهُ قال: بكلِّ أسفٍ الكثيرُ من هذهِ الأمور
ستتغيرُ بعدَ انتقالِنا للسكنِ في المدينةِ. استغربتِ الأمُّ قولَ زوجِها
إلا أنَّ جرسَ البابِ قطعَ دَهْشتها، فأجلَّتْ بحثَ الأمرِ.
وفي الحديقةِ قربَ شجرةٍ الزيتون الخضراء الفتية كانَ الأصدقاءُ الخمسةُ يجتمعونَ
والفرحةُ باديةٌ على وجوهِهِم. إنَّها الفرحةُ بتحقُّقِ أحدِ أحلامِ صديقِهم باسم الذي أحضر
َ ورقةَ أحلامِهِ منَ الشجرةِ ورسَمَ بجوارِ حُلمهِ الأول ابتسامة. صفقَ الأصدقاءُ، وباسمُ فتحَ
يديهِ متضرِّعاً ـ دونما حديثٍ ـ أن تتحققَ أحلامُ أصدقائِهِ أيضاً. ومن إشاراتِ باسم فهم الأصدقاءُ
أن عليهمِ مرافقتَهُ ليسلِّموا على والدِهِ فانطلَقُوا فرحينَ
وفي البيتِ استقبلَهُم الأبُ ورحَّبَ بهم
وقدمتِ الأمُّ لهُم الضيافةَ غيرَ أنَّ اضطراباً لم يلحْظهُ باسمُ من قبل بدا على
وجهِ أمهِ وحينَ أشارَ إِليها: ما الأمرُ؟ رَبَتتْ على كتفهِ وأشارتْ: لا شَيء.
جلسَ أبو باسم وزوجتُهُ وابنهما مساءً. كانَ الولدُ يشيرُ بحركاتِ يَديه ووالداهُ منتبهان جَيداً وعلى
كلٍّ منْ وجوهِ الثلاثةِ ابتسامةً. فسَّرتِ الأمُّ ما فهمتْهُ من إشاراتِ ولدها. إِنهُ اجتهَد كثيراً بفضلِ أمّه
وأصدقائِه، ومعلمُه يحبُّه كثيراً ويشجعُه، وهو مصممٌ أن يكونَ في المستقبلِ كاتبا
ثم إنَّ أصدقاءه يفعلونَ دائماً ما يقولُ لهم. بعد أن أنهتِ الأمُّ تفسيرَ إشاراتِ ولدِها
تابعتْ: ماذا كنتَ تعني حين قلتَ: إنَّ الكثيرَ من الأمورِ ستتغير
أجابَها: آن لنا أن نرحلَ من هذهِ القريةِ النائيةِ. في المدينةِ كلُّ ما يمكنُ
أن يحتاجَهُ المرءُ من خدماتٍ، ثم إن مجالاتِ العملِ فيها أكبر، وسيلتحقُ باسمُ
بمدرسةِ الصمِّ والبكمِ ويتعلمُ فيها. أنتِ تعلمين أنني أحضرتُ
مالاً وفيراً يمكّننا من تحقيقِ حياةٍ رغيدةٍ هناك
قالت أم باسم: أرى أنك اتخذتَ قراراً ولم تسألنا. نحنُ لا نريدُ سكنَ المدينةِ
الخدماتُ متوافرةُ هنا بصورةٍ جيدةٍ، والمدرسةُ في القريةِ تتكفلُ بتعليمِ ولدِنا باسم
أما عن مجالاتِ العملِ فيمكنُكَ استثمارُ أموالِكَ في الزراعةِ أو في أيِّ مشروعٍ آخر هنا
ثمَّ إن السعادةَ التي يحياها باسمُ هنا لن تُعوضَ لـهُ في أي مكانٍ آخر
حسان: أَعلمُ أنكُما تحبانِ القريةَ، ولكن ستعتادانِ الحياةَ في المدينةِ أيضاً وستجدانِ الفرقَ الكبيرَ
بعدَ انتقالنا. لقد اتخذتُ قراري وانتهى الأمر. تعبتُ في الغربةِ ولن أضيّع ما جنيَته هنا
كان باسمُ يراقبُ ما يدور بين والديهِ. صحيحُ أنهُ لم يفهم كل ما دار ولكنَّه أدركَ أن ثمةَ
خلافاً سيؤثرُ على صفوِ حياتِهم. وقفَ وعلى وجههِ علائمُ قلقٍ وحزنٍ، ثم اتجهَ نحوَ غرفةِ نومِه
صباحَ اليومِ التالي اتجهَ الأبُ إلى المدينةِ لشراءِ مسكنٍ مناسبٍ، ولقاءِ صديقه
المحامي عادل للتفكيرِ في مجالٍ يمكنّهُ من استثمارِ أموالِه
بينما أعدتِ الأمُّ طعامَ الفطورِ لولدِها. على مائدةِ الطعام
لاحظَ باسمُ حزنَ أمهِ فأشارَ إليها بيدِهِ
مُستفسراً وأخذَتْ تُشيرُ أن والدَهُ قررَ اصطحابَهُما للسكنِ في المدينة حيثُ الخدماتُ والعمل
والمدرسةُ المناسبةُ. حاولت إقناعَ وَلدها بما لم تَقتنعْ نفسَها به
ولكنَّها فشلتْ وهاهي علاماتُ الغضبِ تبدو جليةً على وجهِ باسم
أشارَ أنه لن يغادرَ القريةَ، وحينَ أكدتْ بالإشارةِ أن والدَهُ مصممٌ على ذلك
دخلَ غرفتهُ وما خرجَ منها إلى أنْ حانَ موعدُ لقاءِ الأصدقاء
عندَ الساعة الرابعة عصرا
وقربَ شجرةِ الأحلامِ اجتمعَ الأصدقاءُ الخمسةُ. كتبَ باسمُ أنَّ والدَهُ مصمّم على الرحيلِ
فسأل رافع: ما الذي يمكننا فعلَه
قال وكتبَ نجيبُ: نزورُ أبا باسم، ونحاولُ إقناعَهُ بالبقاءِ هنا. هزَّ باسمُ رأسَهُ يائسا
فهو أدركَ أنَّ والدَتهُ بذلْتُ جهداً في هذا السبيلِ ولم تفلحْ
أشارَ سعدُ: سنحاول. ومساءً، حينَ عادَ الأبُ من المدينةِ
واجَهَ الأصدقاءَ الخمسةَ عند باب البيتِ
ابتسمَ، فحدثُوهُ راجينَ أن يُلغيَ فكرَة السفرِ. فتبدلتْ علائمُ وجهِهِ من ابتسامةٍ إلى غضبٍ
وصرخَ: ما كان ينقصُني إلا تدخلّ الصغارِ في حياتي. طأطأ الأصدقاءُ رؤوسهُم
وغادَروا المكانَ. حاولَ باسمُ مرافقتهم إلا أنَّ والدَهُ أمسكَ بيدهِ
وشدَّهُ إلى الداخلِ رأتْ أمُّ باسم المشهدَ
وقد سمعتْ صراخَ زوجِها فأدركتْ ما حَصَلَ. قالتْ لـهُ: ما كانَ عليكَ أن تعامِلَهمُ بهذه القسوة
إنهم أصدقاءُ باسم الأوفياءُ
ردَّ أبو باسم: لا أريدُ أن أسمعَ مَن يحاولُ تعديلَ قراري. سفرنا إلى المدينة سيكون
بعد ثلاثةِ أيامٍ فقد اشتريتُ مسكناً واتفقتُ مع صديقي عادل على إقامة مشروعٍ تجاريٍ مناسبٍ
أفلتَ باسمُ من يدِ والدهِ واتجهَ نحو غرفتهِ حزيناً
فتابعتْ أمُّ باسم: إنكَ لا تهتمُ بمشاعرِ ولدنا الذي أحببْتُ أن أقدمَ كلَّ ما أستطيعُ لإسعاده
وفرحتُ وأنا أراقبُ تآلفَهُ وانسجامَهُ مع أصدقائه
قالَ حسانُ: ما أفعلهُ هوَ في مصلحتهِ أيضاً، فمدرسةُ الصم والبكمِ ستعلِّمُه ما تعجزُ
مدرسةُ القريةِ عنه. توقفَ الحوارَ عندَ هذا الحدِ، فالأبُ العائدُ منَ
المدينةِ متعبٌ وعلى الأمِّ أن تهيئ لـهُ طعامَ العشاءِ
وفي اليوم التالي وقربَ شجرةِ الأحلامِ وقفَ سعدُ ونجيبُ ورافعُ وعمارُ
قالَ سعدُ: أرى أنَّ الحلمَ الذي تحققَ سيسببُ لنا الحزنَ
تابعَ نجيبُ: بما أنَّ أمرَ السفرِ مؤكد فلنتحدثْ إلى صديقِنا باسم عن جمالِ الحياةِ الجديدةِ التي سيعيشُها
لنحاولَ مواساته ما استطْعنا. لنخبَرُه أننا سنبقَى أصدقاءَهُ المخلصين وسنكتُب لـهُ الكثيرَ من الرسائلِ
وعامرُ قال: لماذا يريدُ أهلنا أن نعيشَ حياةً مختلفةً؟ نحنُ مع أصدقائِنا وأَحبتِنا نستطيعُ
أن نكوَن مثل كلِّ الناسِ. إنني أنسى إصابتي بالشللِ وأنا بينكُم
وعندَ بابِ الحديقةِ بدا باسمُ يتقدمُ وعلاماتُ حُزنهِ جلَيةً. أسرعَ الأصدقاءُ الأربعةُ نحوَهُ
أشارَ إليهم أن يومين يفصلانه عن السفرِ إلى المدينة ولنْ يتمكَن من لقائِهم بعدَ اليومِ وعندما
بدأ الأصدقاءُ يشيرونَ بأيديهم ما يُوحي أنَّ المدينةَ جميلة وأنهُم سَمِعُوا الكثيرَ عنها كانَ باسمُ
شارداً. ومع محاولاتِهم رَسم الابتسامةِ على وجهِه إلا أنه ظلَّ كئيبا
وقبلَ أن ينقضي وقت لقاءِ الأصدقاءِ انطلقَ الخمسةُ نحوَ أغصانِ شجرةِ الأحلام
وأحضرَ كلٌّ منهُم ورقةَ أحلامهِ ليضيف حلماً جديداً إشاراتُ باسم أوضحت لأصدقائه
رغبته أن تبقى ورقةُ أحلامهِ وغصنُ أحلامِه بانتظارِ عودتِه
بعدَ قليلٍ كانت الدموعُ تُعبّرُ بوضوحٍِ تامٍ عن حالةِ الحزنِ التي سبَّبها قرارُ والدِ باسم
وانطلقَ كلُّ منَ الأصدقاءِ الخمسة نحوَ منزلِ أسرتهِ كئيباً. إنَّهُ حزنُ الوداع
حينَ كانَ سائقُ السيارةِ يهمّ بالانطلاقِ كانَ الكثيرُ من أهلِ القريةِ يلوحونَ تلويحةَ
الوداعِ لأسرةِ حسان، ومعلمُ باسم أحضرَ تلاميذَهُ رفاق باسم ليقولوا لـه
بابتساماتٍ ودموعٍ: معَ السلامةِ.. إلى اللقاءِ يا باسم. وتابَعُوا جَميعاً السيارةَ
بعيونِهم حتى أخْفتها الطريقُ. أصدقاءُ باسم (نجيبُ وسعدُ ورافعُ وعمارُ) اتجَهُوا نحوَ
شجرةِ الأحلامِ. لم يلعبوا هذهِ المرة، إنما وَقَفوا قُربَ غصنِ أحلامِ باسم
وبعدَ قليلٍ عادَ كلٌّ منهُم إلى منزلِ أسرتِه
وتمضي الأيام.. مرَّ أسبوعٌ على وجودِ أسرةِ حسان في المدينة
والابتسامةُ لا زالت غائبة عن وجوهِهم. رغمَ أن حسان اصطحَب زوَجتَهُ وولدَهُ لمشاهدةِ
معالمِ المدينةِ الجميلةِ، والتعرُّفِ على مدرسةِ الصمِ والبكم القريبةِ من منزلهم الجديد
لكنَّ حزنَ باسم أثارَ قلقَ والديهِ. حاولتْ أمه أن تصَحَبُهَ للقيام بزيارة إلى السوق ورفضَ
وحاولَ والدُهُ ثانيةً دون جدوى، وباسم بقيَ حبيسَ غرفتِهِ. وصباحَ اليوم التاسعِ استيقظَ حسانُ وزوجتُه
أُصيبا بالذهولِ فسريرُ باسم فارغٌ. لقد اختفى. انطلقَ الوالدانِ في رحلةِ البحثِ التي طالت كلَّ الأماكنِ القريبة
ثمَّ شملتِ المشافي وأقسامَ الشرطةِ ولم يظفرْ أحدهما به، فعادت الأمُ وتبعها الأبُ
واليأسُ بادٍ على وجههِ. أطرقَ قليلاً ثم قالَ: سنعلنُ عبرَ وسائلِ الإعلامِ عن فقدانِ ولدنا
فهزتِ الأمُّ رأسَها ثم قالت: تُرى هل بمقدورهِ العودة إلى القرية؟ ردَّ حسانُ: مستحيل
إنه لا يعرفُ مكانَ مركزِ الانطلاقِ وليسَ بمقدورهِ أن يسألَ ولا يملكُ مالاً.. ولا يمكنُه العودةَ
وبَسَطَ الليلُ جناحَ العتمةِ. أنوارُ البيوتِ أخذت تنطفئُ.. وحسانُ أغفى
لكنَّ زوجتهُ جلستْ عند طرفِ السريرِ تفكّرُ في غيابِ ولدِها باسم. مرَّ الليلُ بطيئاً
ومع قدومِ الصباحِ انطلقَ حسانُ مْنَ جديدٍ في رحلةِ البحثِ وزوجتهُ اختارتْ طريقاً آخر
وفي القريةِ، قربَ جذعِ شجرةِ الأحلام أمضى باسمُ ليلتَهُ. ومع إطلالةِ الفجرِ شاهَدُه صديَقه نجيب
لم يحضرْ إليهِ إنما أسَرعَ مُتلهفاً يخبرُ بقيةَ الأصدقاءِ. وبَعد قليلٍ كانَ الخمسةُ يضمُّهم عناقُ شوقٍ ولهفةٍ
ثم مدَّ كلُّ منهمُ يده إلى ورقةِ أحلامه، فأخرجَها ورسَم ابتسامة إلى جوارِ آخرِ حلمٍ كتبَهُ
أخبَر باسمُ أصدقاءَهُ بالإشارةِ أنَّه لن يعيشَ حياتَهُ بعيداً عنهم.. عن القريةِ.. عن شجرةِ الأحلامِ
بعد أن جلسُوا حاولَ الأصدقاءُ مواساته والتخفيف عنه. ورغمَ إلحاحِهم أن يرافِقَهُم إلى أي بيتٍ
من بيوتهم إلا أنه أصرَّ أن يبقى إلى جوارِ الشجرةِ. فلديه الكثيرُ من الأحلامِ التي يجبُ عليهِ كتابتها
أحضرَ الأصدقاءُ لباسمَ الطعامَ والماءَ، ورجاهُم ألا يخبرُوا أحداً بوجودِه خشية أن يُرسلُوا في طلبِ
والدهِ الذي سيصحبهُ من جديد إلى المدينةِ وهذا ما يرفُضُه أبلغهم أنه سيبقى
في الحديقةِ فالجّو الربيعي سيساعدُهُ. وما انقضتْ ساعاتُ النهارِ حتى وصلت أم
باسم إلى القريةِ. انتقلتْ إلى الحديقةِ. لم تُفاجأ وهي تراقبُ ولدهَا المتكئ إلى جذعِ شجرةِ الأحلام
أسرعتْ إليهِ. حاولَ أن يهربَ، إلا أنها أخذتْ تشيرُ إليهِ أنها لن تعودَ إلى المدينةِ بعد الآن
ضمتهُ إلى صدرها. وفي المدينةِ، حينَ عادَ حسانُ إلى بيتهِ قرأ رسالةً كتبتها زوجتهُ قبلَ أن تغادرَ قالت فيها
إنني واثقةٌ من و جودِ ولدي في القريةِ حيثُ الأصدقاءُ الذين يحبهم ويحبونه وحيثُ شجرة الأحلام
التي لا يمكن لباسم أن يعيشَ بعيداً عنها. إنني اخترتُ البقاءَ إلى جانبِ ولدي في القريةِ وسنكونُ
سعيدين إن قررتَ اللحاقَ بنا.. إننا ننتظركَ) فكرَ حسانُ، حدثَ نفسه
ما الذي جعلَها واثقة من وجودِه في القريةِ؟.. ثم ما حكايةُ شجرةِ الأحلام؟ يبدو أنني تصرفتُ بأنانية
بعد قليل أخذَ يجمعُ بعض الأوراقِ في حقيبتهِ، واستقلَّ سيارةَ أجرةٍ سارت به في طريقِ العودةِ
إلى القريةِ وحينَ وصلَ كانت ابتسامتُه تقولُ لزوجتِه: لقد قررتُ أن أكونَ معكم
سأَلَها: أين باسم؟ فردتْ: إنهُ نامَ بعد أن أحسَّ بالأمانِ. وروتْ لـه كيفَ تَمَكَّنَ باسمُ
من العودةِ إلى القريةِ. إنه كتبَ اسمَ قريتِه على ورقةٍ وأخذَ يُريها لأناسٍ ساعدُوه حتى
وصلَ مركزَ الانطلاقِ، ثم ركبَ إحدى الحافلاتِ التي ستنطلقُ إلى القرية بعدَ أن أشارَ للسائقِ
أنَّهُ لا يملكُ نقوداً، فسامَحَهُ السائقُ. قال حسانُ: وما حكايةُ شجرةِ الأحلام
أم باسم: إنها شجرةُ زيتونٍ خضراءَ فتيةٍ عندَ طرفِ الحديقةِ اختارَ باسمُ وأصدقاؤُه أغصانَها
مخبأً لأحلامِهم.. قال حسانُ: أريدُ أن أراها الآن.. أريدُ أن أتعرفَ إلى أحلامِ ولدي ورفاقِه.
أم باسم: وأنا معك
وعندَ شجرةِ الأحلامِ وقفَ حسانُ وإلى جوارهِ زوجتُه. فتشَ عن أوراقِ الأحلامِ وحينَ وجدها
قرأَ بدايةَ الورقةِ التي سطرَ فيها ولدُه باسمُ أحلامَهُ. كان في مقدمتها حُلمٌ بعودةِ الأبِ سالما
من بلاد الغربةِ، ثم حلم أن يتمكنَ يوماً من التحدثِ والسمع مثل الناس، وحلم باستمرار صداقته
مع نجيب وسعد ورافع وعمار وآخرين وأن تتحققَ أحلامُ الأصدقاء
وأن تعودَ عافيةُ صديقهِ عمار وأن يكونَ كاتباً في المستقبل، وقرب النهاية سجلَ حلَمه
أن يغيرَ والدهُ قرارَ الانتقال إلى المدينةِ. انتقلَ بعدَها لقراءةِ ما كتبَ أصدقاءُ ولدهِ
لفتَ انتباهَهُ أن أحلامَهُم جميعها تبدأ بحلمِ عودةِ والدِ باسم، ثم قرأ أحلاماً ترسمُ صُورَ البراءة
فسعدُ حَلُمَ أن يرى والده وقد وجدَ عملاً مريحاً يخففُ من متاعبهِ، وحَلُمَ رافعُ أن يرى أسرَتهُ تنتقل
إلى مسكنٍ جديدٍ يكونُ ملكاً لهم ليرتاحُوا من التنقلِ من منزلٍ مستأجرٍ إلى آخر
أما نجيبُ فقد حلم أن يتمكنَ شقيقُهُ من متابعةِ دراستهِ الجامعيةِ وهو الطالبُ المجدُ حيثُ
يقفُ المالَ عائقاً في سبيلهِ، وعمارُ حلم أن يتمكنَ والده من إجراءِ عمليةٍ جراحيةٍ لوالدتهِ
التي تعاني من مرضٍ في القلب. أعادَ حسانُ أوراقَ الأحلام إلى أغصانِها
وعادَ برفقةِ زوجتهِ إلى البيتِ. وحينَ قدمتْ لـه فنجاناً من القهوةِ انتبهَتْ لشرودِهِ
قالت لـه مبتسمةً: هل أعجبتكَ فكرةُ الأحلامِ
ردَّ عليها: أجل. وأفكرُ كيفَ سأدخلُ السعادةَ إلى قلوبِ هؤلاءِ الأطفال
لقد حلمتُ كثيراً حين كنتُ صغيراً مثلهم. جميع الأطفالِ يحلمون
سأفعلُ ما بوسعي لتحقيقِ ما أستطيعُ من أحلامِهم.
زارَ حسانُ المدينةَ من جديدٍ، وقررَ أن يوكلَ أمرَ المشروعِ التجاري لصديقه
عادل فهو سيبدأُ العملَ في مشروعٍ زراعي في القريةِ. بعد ذلك تحدث حسانُ
عن حلمهِ في إسعاد الأطفال وفكرته في إنشاءِ جمعيةٍ ترعى أحلامهم وتعملُ على
تحقيقها يسميها (جمعية أحلام الأطفالِ). استمعَ عادلُ إلى حديثِ حسان
أبدى إعجابَهُ الشديد وتأييدَهُ المطلق لَفكرتِه، واتفقا على دعوةِ بعض
الأصدقاءِ للمساهمةِ في تأسيسِ الجمعيةِ
مضتْ أيامٌ قليلةٌ استعادَ خلالَها باسمُ وأصدقاؤهُ ألقَ صداقتِهم وعادُوا لِلهْوَهِمْ ومَرَحِهِمْ
بعدَ شهرين، وخلالَ اجتماعِ الأصدقاءِ الخمسةِ قربَ شجرةِ الأحلام بدتِ السعادةُ
والدهشةُ على وجهِ سعدٍ. قالَ وكتبَ: لقد وجدَ أبي عملاً مُريحاً وبأجرٍ ممتازٍ
وذلك بفضل جمعيةٍ اسمُها جمعيةُ أحلامِ الأطفال.
وقالَ نجيبُ وكتبَ: تلقَّى شقيقي رسالةً من جامعةِ الأمانةِ تبلغه أنَ عليهِ الالتحاق
بالجامعةِ لمتابعةِ تحصيلهِ العلمي، وحينَ زارَ شقيقي مقرَّ الجامعة أخبَرُوهُ أنَّ جمعية
أحلام الأطفال سددتْ عنُه رسوم التسجيلِ والدراسةِ، ودفعتْ ثمنَ الكتبِ.
تفاوتتْ مشاعرُ الأصدقاءِ بين الدهشةِ والفرح وعادَ كلٌّ منهم إلى بيتِ أسرته
كان باسمُ سعيداً، أخذَ يُشيرُ أمامَ والدَيْهِ ما يعني أن ابتسامات أصدقائِه بما تحققَ أروع
ما كان يَحلمُ برؤيته. تبادلَ والدا باسم النظرات والابتسام، واحتضنا وَلدهما، وحينَ أفلتَ منهما
ودخلَ غرفتَهُ قالت أم باسم: ما تُقدمُ عليهِ مع أصدقائِكَ رائعٌ يا حسان
فأجابها: ما زالَ لدْينا الكثير. سنحاولُ فِعل أيّ شيء يُسعدُ الأطفالَ
ليسَ أصدقاءُ باسم وحسب إنما الكثيرُ من الأطفالِ غيرهم. فأنتِ تعلمينَ أنّ عددَ أعضاءِ الجمعية
يزداد، وقدرتُنَا على زرعِ الابتساماتِ على وجوهِ الأطفالِ تكبر.
ومرت الأيامُ. المشروعُ التجاريُّ الذي يديُرُهُ عادل شريكُ وصديقُ حسان تألقَ
ومزرعته أخذتْ تنتجُ أجودَ الثمارِ، وتحقُق الكثيرَ من أحلامِ الأطفال
كبرَ باسمُ وسعدُ ونجيبُ ورافعُ وعمارُ.. كبرتْ شجرةُ أحلامهم، وبقيت رفيقتُهُم الدائمة، وبعد مضيِّ ثلاثِ سنوات
أي عندما تجاوزَ الأصدقاءُ الرابعةَ عشرةَ عَلم باسمُ أنَ من أسعدَ أصدقاءَهُ وأطفالاً كثر آخرين هو والده
من خلال تأسيسهِ جمعيةَ أحلام الأطفال. فرَح كثيراً لكنَّه لم يُخبر أصدقاءَهُ
وصمَم أن ينضمَ حين يكبر إلى جمعيةِ أحلامَ الأطفال وسيكتُبُ قصةً عن والدهِ وهذه الجمعية
وأصدقائه وشجرةِ الأحلامِ. أجل.. فمن الأحلام التي قرَّرَ أن يحققَها بنفسه ودون
مساعدةٍ أن يُصبحَ كاتبَ قصةٍ، وسيبدأ العمل من أجلِ ذلك منذُ الآن
جَلستْ أمُ باسم تقرأُ الرسالةَ التي وصلت للتوِّ من
زَوجها حسان، وإلى جوارِها ولدها
باسم الَّذي أخذَ يُراقبُها بعينيه. لا شكَ في أنَّ كلمات
الرسالةِ تحملُ التحيةَ والمحبةَ
والشوقَ من الأبِ الغائبِ منذُ أكثرَ من خمسِ سنوات
ولأنَّ الأم تدركُ ما يشغلُ بالَ ولدها الأخرس
فقد كانت تقرأ الرسالةَ وتمسحُ بحنانٍ على شعره
وحين انتهت من القراءةِ نظرتْ إليه
وأَشارتْ بيدها ما يعني أنَّ والدهُ سيعودُ إن شاءَ الله
ضمتهُ إلى صدرها وبكتْ. أَعطتهُ الرسالةَ ليقرأَها فأخذَهَا ودخلَ غرفتَهُ.
مسحتْ الأمُ دموعَها وهي تسرعُ نحوَ البابِ لتفتحهُ بعد أنْ سمعتِ الجرسَ يرنُّ.
إنها صديقتُها ميساء جاءتْ لزيارتِها. جلستا، وسألتها الصديقةُ: ما بكِ يا أم باسم؟ فردتْ: ولدي باسم
أشعرُ بحزنِهِ الدائم بسببِ غيابِ والدِهِ. يرى اهتمامَ الآباءِ بأبنائِهم فيسألني بالإشارةِ: متى يعودُ أبي
ولماذا أنا أخرس؟ وأجيبه بالإشارة أيضاً: والِدُكَ سافرَ ليعملَ وإصابتكَ بالخرس هي إرادة الله
كما أُحاولُ أن أوضح لـه أنَّ العلمَ يتطورُ، وقد يستطيعُ يوماً معالجةَ حالتهِ. باسمُ ذكيٌّ وحساس
قالت ميساءُ: طالَ غيابُ زوجكِ. عليهِ أن يعود ليشاركَ في تحملِ مسؤوليةِ ورعايةِ ولدكما
تابعتْ أمُّ باسم: رسالتُه التي وصلَتْني قبلَ قليل تؤكدُ أنَّه سيعودُ بعد عامٍ
ميساء: كانَ عليكِ أن تأخُذي ولدكِ وتسافري مع زوجكِ
أم باسم: حاولَ حسانُ كثيراً، إلا أنني لا أحتملُ مجرَّدَ التفكير بالسفر
ميساء: وكيفَ ترينَ استجابةَ باسم للتعلمِ في المدرسةِ
أم باسم: أصبحَ يجيدُ القراءةَ والكتابةَ، ويتابعُ قصصَ ومجلاتِ الأطفالِ
ومنذُ أيامٍ كتبَ لي أنَّهُ سيُصبحُ كاتباً في المستقبل. قطعَ حديثَهُما صوتُ جرسِ الباب
هذه المرة كانَ أصدقاءُ باسم (رافع ونجيب وسعد) رحبتْ بهم ودعتْهُم للدخول
إلا أنهم شَكروها، وَرَجوها أن تُرسلَ باسم ليخرُجُوا سوّيةً للعبِ
وبعدَ أن انضمَّ إليهِم غادروا وعادتِ الأمُّ إِلى صَديقتِها
ميساء: ربَّما كانَ من الأفضلِ أنْ تُرسلي باسم إلى مدرسةِ الصّمِ والبكم
أم باسم: لا توجد في قريتِنا مدرسةٌ متخصصةٌ لهم، ولا يمكن أَن أُرسلَهُ إلى المدينة
ثمَّ إنهُ يتعلمُ هنا، فكما قلتُ لكِ هو طفلٌ ذكيٌ، وأصدقاؤُه الثلاثةُ الذين حَضروا الآنَ يحبونَه
وهو يحبُّهُم. إنهم يتعلمونَ في صفٍ واحدٍ، ويلعبونَ سويةً لقد تخلّوا عن
صديقٍ آخرَ لهم لأنهُ سَخرَ من باسم، رغمَ أنَّ ولدي رجاهُم بالإشارةِ أن يسامِحُوه
إنهم يخرجونَ للعبِ في الحديقةِ قربَ بيتنا مُصطحبينَ معهُم أوراقاً
وأقلاماً وذلك بعدَ أن يُتمُوا واجباتِهم المدرسيةَ
ميساء: وُجودُ الأصدقاء والأحبة خيرُ تعويضٍ ومواساةٍ
في الحديقةِ، كانَ الأصدقاءُ الأربعةُ (باسم ورافع ونجيب وسعد) يَجلسونَ قربَ شجرةٍ زيتونٍ
خضراءَ فتيةٍ بعدَ أن مارسُوا ألعابَهم البَسِيطةَ التي ابتكرَ أغلبَها باسمُ وقد اعتادُوا أَن يُمضوا
بعضَ الوقتِ في أحاديثَ شتَّى تتعلقُ بالمدرسةِ، بمعلميهِم وبرفاقِهم، بِأَحلامِهم
الأحلامُ التي لا يملّونَ الحديثَ عنها. ويُرفق الأصدقاءُ أحاديثَهم بإشاراتٍ ليتمكنَ
باسمُ مِنْ فهمها، وأحياناً يكتبونَ حِواراً على أوارقِهِم. وباسمُ الطفلُ الذكيُّ
الذي أتمَّ العاشرةَ من عمرِه يُدركُ الكثيرَ من أحاديثِهم عبرَ حركاتِ الشفاهِ
كتبَ سعدُ: إننا نتحدثُ كثيراً عن أَحلامِنا
ضحكَ وكتبَ نجيبُ: لا أحدَ يعرفُ بأَحلامِنا إلا نحنُ وهذهِ الزيتونةُ الخضراءُ
ورافعُ كتبَ: حديثنا الدائم عنِ الأحلامِ يَجعلُنا نصمّمُ على تحقيقِ ما نستطيعُ مِنها
وكتبَ باسم: أحلامُنا ستكبُرُ كما تكبُر وتنمو هذه الشجرة. ما رأيكُم أن نُسمِّي شجرةَ الزيتونِ
الخضراء التي نُحبها شجرةَ الأحلامِ ويختارُ كلُّ منا غُصناً من أغصانِها ويكتبَ أحلامَهُ
على ورقةٍ ويخبّئَ هذه الورقةَ على الغصنِ الذي اختارَهُ وكلما كبرتِ الشجرةُ تكبُرُ أحلامنا
هتفَ نجيبُ وسعدُ ورافعُ: شجرةُ الأحلام! هذا رائعٌ. ستكونُ أغلى شجرةٍ على قلوبِنا
بعدَها فكَر سعدُ وكتبَ: وإذا هطلَ المطرُ وبللَ أوراقَ أحلامِنا؟
ردَ عليه رافعُ كتابةً: نعيدُ كتابتَها من جديد.
كتبَ باسمُ: حينَ يهطلُ المطرُ هذا يعني أنَّ الشجرةَ ستنمو
وأحلامُنا ستكبرُ. وكل حلمٍ يتحقق سنرسمُ إلى جانبهِ ابتسامة
نجيبُ قالَ وكتبَ: ليتركَ كلُّ منا ورقةً بيضاءَ ليُضيفَ عَلَيها أحلاماً جديدةً
ومع سعادتِهم بالفكرةِ كانَ الأصدقاءُ الأربعةُ يقفونَ، ويُمسكُ كلٌ منهم بيدِ الآخر مشكلين حلَقَةً
وهُم يغنونَ ويَمْرحونَ والابتساماتُ تزيِّنُ وجوهَهم وباسمُ يحركُ شفتيه كأنّما يُشاركُ أصدقاءَه الغناءَ
وبعدَ قليلٍ جلسَ كلٌّ مِنهم وأمسكَ بقلمِه وأخذَ يكتبُ أحلامَهُ. حينَ عادَ باسمُ إلى البيت
لفتَ انتباهَ والدته سعادة تهللَ بها وجهُهُ. سألتْهُ بإشارَتِها وابتسامَتِها، فكتبَ لها عن شجرةِ الأحلامِ
ومنْ كلماتِهِ التي كتبَها شعرتْ أنهُ يعيشُ لحظةَ الفرحِ الكُبرى في حياتِهِ
وتوالتِ الأيامُ، وهَطلَ مطرٌ، وكُتِبَتِ الأحلامُ على أوراقٍ كثيرةٍ
وانضمَّ إلى الأصدقاءِ الأربعة صديقٌ جديدٌ هو عمار يماثلُهم سناً وفي صفهم ذاته
ويكاد يتفوقُ على الجميعِ باجتهادِه. غيرَ أن شللَ الأطفالِ تسببَ
في ضمورِ عضلاتِ رجلَيه وحدَّ من قُدرتِهِ على الحركة
أم باسم تلقَتْ رسائلَ أُخرى، ومَع كلِّ رسالةٍ كانتِ الابتسامةُ تكبُر
فالغائبُ سيعودُ قريباً.. ما هي إلا أيام وأحدُ أحلامِ باسم التي سطَّرها وحَمَلَتْها شجرةُ
الأحلامِ سيتحققُ. ومَع إطلالةِ صبحٍ جديدٍ أيقظَتْ أم باسم ولدها وإِشاراتها جعلتهُ يُدركُ
أنَّ عليهِ الاستعداد للانطلاقِ نحوَ المدينةِ، ثم إلى المطارِ لاستقبالِ والدِهِ الحبيب العائد
في المطارِ ابتساماتُ لقاءٍ، ودموعُ وداعٍ. كانت عينا باسم تجوبانِ أرجاءَ المطارِ
وأمه تقفُ إلى جوارِهِ. فجأةً: رَبتت على كتفهِ وأشارتْ بفرحٍ كبيرٍ نحوَ بوابةِ العبور
حيثُ كانَ أبو باسم يحملُ حقيبةً صغيرةً بيدِهِ ويتقدمُ نحوهما
أسرعَ باسمُ يستقبلُ والدَهُ الذي احتضنَهُ بحنانٍ غامرٍ. طالَ عناقَهُما حتى
تدخلتِ الأمُّ مرحبةً بزوجِها وبعدَ قليلٍ انطلقتْ بهم سيارةُ أجرةٍ نحو قريتِهم البعيدة
بدأَ أهلُ القريةِ يتوافدون إلى بيتِ أبي باسم مهنئين بالسلامةِ، وباسمُ أمضى معظَم
وقتهِ إلى يسار والدهِ وبسمتُهُ تحكي لكلِّ من يراهُ مدى سعادته، بينَما كانتْ أمُّ
باسم منهمكةً بإعدادِ الضيافةِ للزوارِ، نظرَ باسمُ إلى الساعة. إنها الرابعةَ عصراً
قبّلَ والدَهُ وأشارَ إليه ما يعني أنه سيخرُجُ للعبِ مع رفاقِه.لم يدركْ والدُه ماذا يقصدُ
لكنَّ الأم ابتسمت وأشارتْ ما فَهمَ الولدُ منهُ أنَّ بإمكانِه الخروج وأَخذتْ تَحكي لزوجها
عن صداقةِ باسم ورفاقِه وموعدِ لعبهم والفرح الذي يحتلُّ كيانها كلما رأتْ سعادةَ ولدِها بأصدقائِه
فَهُمْ جعلوهُ يعيشُ حياةً طبيعةً متناسياً أمرَ الإعاقةِ التي ألمتْ بهِ، وأكثر من ذلك فهمْ يُشعروهُ
بحاجتِهم لوجودهِ بينَهُم. أبدى الأبُ ارتياحَهُ لما سَمِعَ، ولكنّهُ قال: بكلِّ أسفٍ الكثيرُ من هذهِ الأمور
ستتغيرُ بعدَ انتقالِنا للسكنِ في المدينةِ. استغربتِ الأمُّ قولَ زوجِها
إلا أنَّ جرسَ البابِ قطعَ دَهْشتها، فأجلَّتْ بحثَ الأمرِ.
وفي الحديقةِ قربَ شجرةٍ الزيتون الخضراء الفتية كانَ الأصدقاءُ الخمسةُ يجتمعونَ
والفرحةُ باديةٌ على وجوهِهِم. إنَّها الفرحةُ بتحقُّقِ أحدِ أحلامِ صديقِهم باسم الذي أحضر
َ ورقةَ أحلامِهِ منَ الشجرةِ ورسَمَ بجوارِ حُلمهِ الأول ابتسامة. صفقَ الأصدقاءُ، وباسمُ فتحَ
يديهِ متضرِّعاً ـ دونما حديثٍ ـ أن تتحققَ أحلامُ أصدقائِهِ أيضاً. ومن إشاراتِ باسم فهم الأصدقاءُ
أن عليهمِ مرافقتَهُ ليسلِّموا على والدِهِ فانطلَقُوا فرحينَ
وفي البيتِ استقبلَهُم الأبُ ورحَّبَ بهم
وقدمتِ الأمُّ لهُم الضيافةَ غيرَ أنَّ اضطراباً لم يلحْظهُ باسمُ من قبل بدا على
وجهِ أمهِ وحينَ أشارَ إِليها: ما الأمرُ؟ رَبَتتْ على كتفهِ وأشارتْ: لا شَيء.
جلسَ أبو باسم وزوجتُهُ وابنهما مساءً. كانَ الولدُ يشيرُ بحركاتِ يَديه ووالداهُ منتبهان جَيداً وعلى
كلٍّ منْ وجوهِ الثلاثةِ ابتسامةً. فسَّرتِ الأمُّ ما فهمتْهُ من إشاراتِ ولدها. إِنهُ اجتهَد كثيراً بفضلِ أمّه
وأصدقائِه، ومعلمُه يحبُّه كثيراً ويشجعُه، وهو مصممٌ أن يكونَ في المستقبلِ كاتبا
ثم إنَّ أصدقاءه يفعلونَ دائماً ما يقولُ لهم. بعد أن أنهتِ الأمُّ تفسيرَ إشاراتِ ولدِها
تابعتْ: ماذا كنتَ تعني حين قلتَ: إنَّ الكثيرَ من الأمورِ ستتغير
أجابَها: آن لنا أن نرحلَ من هذهِ القريةِ النائيةِ. في المدينةِ كلُّ ما يمكنُ
أن يحتاجَهُ المرءُ من خدماتٍ، ثم إن مجالاتِ العملِ فيها أكبر، وسيلتحقُ باسمُ
بمدرسةِ الصمِّ والبكمِ ويتعلمُ فيها. أنتِ تعلمين أنني أحضرتُ
مالاً وفيراً يمكّننا من تحقيقِ حياةٍ رغيدةٍ هناك
قالت أم باسم: أرى أنك اتخذتَ قراراً ولم تسألنا. نحنُ لا نريدُ سكنَ المدينةِ
الخدماتُ متوافرةُ هنا بصورةٍ جيدةٍ، والمدرسةُ في القريةِ تتكفلُ بتعليمِ ولدِنا باسم
أما عن مجالاتِ العملِ فيمكنُكَ استثمارُ أموالِكَ في الزراعةِ أو في أيِّ مشروعٍ آخر هنا
ثمَّ إن السعادةَ التي يحياها باسمُ هنا لن تُعوضَ لـهُ في أي مكانٍ آخر
حسان: أَعلمُ أنكُما تحبانِ القريةَ، ولكن ستعتادانِ الحياةَ في المدينةِ أيضاً وستجدانِ الفرقَ الكبيرَ
بعدَ انتقالنا. لقد اتخذتُ قراري وانتهى الأمر. تعبتُ في الغربةِ ولن أضيّع ما جنيَته هنا
كان باسمُ يراقبُ ما يدور بين والديهِ. صحيحُ أنهُ لم يفهم كل ما دار ولكنَّه أدركَ أن ثمةَ
خلافاً سيؤثرُ على صفوِ حياتِهم. وقفَ وعلى وجههِ علائمُ قلقٍ وحزنٍ، ثم اتجهَ نحوَ غرفةِ نومِه
صباحَ اليومِ التالي اتجهَ الأبُ إلى المدينةِ لشراءِ مسكنٍ مناسبٍ، ولقاءِ صديقه
المحامي عادل للتفكيرِ في مجالٍ يمكنّهُ من استثمارِ أموالِه
بينما أعدتِ الأمُّ طعامَ الفطورِ لولدِها. على مائدةِ الطعام
لاحظَ باسمُ حزنَ أمهِ فأشارَ إليها بيدِهِ
مُستفسراً وأخذَتْ تُشيرُ أن والدَهُ قررَ اصطحابَهُما للسكنِ في المدينة حيثُ الخدماتُ والعمل
والمدرسةُ المناسبةُ. حاولت إقناعَ وَلدها بما لم تَقتنعْ نفسَها به
ولكنَّها فشلتْ وهاهي علاماتُ الغضبِ تبدو جليةً على وجهِ باسم
أشارَ أنه لن يغادرَ القريةَ، وحينَ أكدتْ بالإشارةِ أن والدَهُ مصممٌ على ذلك
دخلَ غرفتهُ وما خرجَ منها إلى أنْ حانَ موعدُ لقاءِ الأصدقاء
عندَ الساعة الرابعة عصرا
وقربَ شجرةِ الأحلامِ اجتمعَ الأصدقاءُ الخمسةُ. كتبَ باسمُ أنَّ والدَهُ مصمّم على الرحيلِ
فسأل رافع: ما الذي يمكننا فعلَه
قال وكتبَ نجيبُ: نزورُ أبا باسم، ونحاولُ إقناعَهُ بالبقاءِ هنا. هزَّ باسمُ رأسَهُ يائسا
فهو أدركَ أنَّ والدَتهُ بذلْتُ جهداً في هذا السبيلِ ولم تفلحْ
أشارَ سعدُ: سنحاول. ومساءً، حينَ عادَ الأبُ من المدينةِ
واجَهَ الأصدقاءَ الخمسةَ عند باب البيتِ
ابتسمَ، فحدثُوهُ راجينَ أن يُلغيَ فكرَة السفرِ. فتبدلتْ علائمُ وجهِهِ من ابتسامةٍ إلى غضبٍ
وصرخَ: ما كان ينقصُني إلا تدخلّ الصغارِ في حياتي. طأطأ الأصدقاءُ رؤوسهُم
وغادَروا المكانَ. حاولَ باسمُ مرافقتهم إلا أنَّ والدَهُ أمسكَ بيدهِ
وشدَّهُ إلى الداخلِ رأتْ أمُّ باسم المشهدَ
وقد سمعتْ صراخَ زوجِها فأدركتْ ما حَصَلَ. قالتْ لـهُ: ما كانَ عليكَ أن تعامِلَهمُ بهذه القسوة
إنهم أصدقاءُ باسم الأوفياءُ
ردَّ أبو باسم: لا أريدُ أن أسمعَ مَن يحاولُ تعديلَ قراري. سفرنا إلى المدينة سيكون
بعد ثلاثةِ أيامٍ فقد اشتريتُ مسكناً واتفقتُ مع صديقي عادل على إقامة مشروعٍ تجاريٍ مناسبٍ
أفلتَ باسمُ من يدِ والدهِ واتجهَ نحو غرفتهِ حزيناً
فتابعتْ أمُّ باسم: إنكَ لا تهتمُ بمشاعرِ ولدنا الذي أحببْتُ أن أقدمَ كلَّ ما أستطيعُ لإسعاده
وفرحتُ وأنا أراقبُ تآلفَهُ وانسجامَهُ مع أصدقائه
قالَ حسانُ: ما أفعلهُ هوَ في مصلحتهِ أيضاً، فمدرسةُ الصم والبكمِ ستعلِّمُه ما تعجزُ
مدرسةُ القريةِ عنه. توقفَ الحوارَ عندَ هذا الحدِ، فالأبُ العائدُ منَ
المدينةِ متعبٌ وعلى الأمِّ أن تهيئ لـهُ طعامَ العشاءِ
وفي اليوم التالي وقربَ شجرةِ الأحلامِ وقفَ سعدُ ونجيبُ ورافعُ وعمارُ
قالَ سعدُ: أرى أنَّ الحلمَ الذي تحققَ سيسببُ لنا الحزنَ
تابعَ نجيبُ: بما أنَّ أمرَ السفرِ مؤكد فلنتحدثْ إلى صديقِنا باسم عن جمالِ الحياةِ الجديدةِ التي سيعيشُها
لنحاولَ مواساته ما استطْعنا. لنخبَرُه أننا سنبقَى أصدقاءَهُ المخلصين وسنكتُب لـهُ الكثيرَ من الرسائلِ
وعامرُ قال: لماذا يريدُ أهلنا أن نعيشَ حياةً مختلفةً؟ نحنُ مع أصدقائِنا وأَحبتِنا نستطيعُ
أن نكوَن مثل كلِّ الناسِ. إنني أنسى إصابتي بالشللِ وأنا بينكُم
وعندَ بابِ الحديقةِ بدا باسمُ يتقدمُ وعلاماتُ حُزنهِ جلَيةً. أسرعَ الأصدقاءُ الأربعةُ نحوَهُ
أشارَ إليهم أن يومين يفصلانه عن السفرِ إلى المدينة ولنْ يتمكَن من لقائِهم بعدَ اليومِ وعندما
بدأ الأصدقاءُ يشيرونَ بأيديهم ما يُوحي أنَّ المدينةَ جميلة وأنهُم سَمِعُوا الكثيرَ عنها كانَ باسمُ
شارداً. ومع محاولاتِهم رَسم الابتسامةِ على وجهِه إلا أنه ظلَّ كئيبا
وقبلَ أن ينقضي وقت لقاءِ الأصدقاءِ انطلقَ الخمسةُ نحوَ أغصانِ شجرةِ الأحلام
وأحضرَ كلٌّ منهُم ورقةَ أحلامهِ ليضيف حلماً جديداً إشاراتُ باسم أوضحت لأصدقائه
رغبته أن تبقى ورقةُ أحلامهِ وغصنُ أحلامِه بانتظارِ عودتِه
بعدَ قليلٍ كانت الدموعُ تُعبّرُ بوضوحٍِ تامٍ عن حالةِ الحزنِ التي سبَّبها قرارُ والدِ باسم
وانطلقَ كلُّ منَ الأصدقاءِ الخمسة نحوَ منزلِ أسرتهِ كئيباً. إنَّهُ حزنُ الوداع
حينَ كانَ سائقُ السيارةِ يهمّ بالانطلاقِ كانَ الكثيرُ من أهلِ القريةِ يلوحونَ تلويحةَ
الوداعِ لأسرةِ حسان، ومعلمُ باسم أحضرَ تلاميذَهُ رفاق باسم ليقولوا لـه
بابتساماتٍ ودموعٍ: معَ السلامةِ.. إلى اللقاءِ يا باسم. وتابَعُوا جَميعاً السيارةَ
بعيونِهم حتى أخْفتها الطريقُ. أصدقاءُ باسم (نجيبُ وسعدُ ورافعُ وعمارُ) اتجَهُوا نحوَ
شجرةِ الأحلامِ. لم يلعبوا هذهِ المرة، إنما وَقَفوا قُربَ غصنِ أحلامِ باسم
وبعدَ قليلٍ عادَ كلٌّ منهُم إلى منزلِ أسرتِه
وتمضي الأيام.. مرَّ أسبوعٌ على وجودِ أسرةِ حسان في المدينة
والابتسامةُ لا زالت غائبة عن وجوهِهم. رغمَ أن حسان اصطحَب زوَجتَهُ وولدَهُ لمشاهدةِ
معالمِ المدينةِ الجميلةِ، والتعرُّفِ على مدرسةِ الصمِ والبكم القريبةِ من منزلهم الجديد
لكنَّ حزنَ باسم أثارَ قلقَ والديهِ. حاولتْ أمه أن تصَحَبُهَ للقيام بزيارة إلى السوق ورفضَ
وحاولَ والدُهُ ثانيةً دون جدوى، وباسم بقيَ حبيسَ غرفتِهِ. وصباحَ اليوم التاسعِ استيقظَ حسانُ وزوجتُه
أُصيبا بالذهولِ فسريرُ باسم فارغٌ. لقد اختفى. انطلقَ الوالدانِ في رحلةِ البحثِ التي طالت كلَّ الأماكنِ القريبة
ثمَّ شملتِ المشافي وأقسامَ الشرطةِ ولم يظفرْ أحدهما به، فعادت الأمُ وتبعها الأبُ
واليأسُ بادٍ على وجههِ. أطرقَ قليلاً ثم قالَ: سنعلنُ عبرَ وسائلِ الإعلامِ عن فقدانِ ولدنا
فهزتِ الأمُّ رأسَها ثم قالت: تُرى هل بمقدورهِ العودة إلى القرية؟ ردَّ حسانُ: مستحيل
إنه لا يعرفُ مكانَ مركزِ الانطلاقِ وليسَ بمقدورهِ أن يسألَ ولا يملكُ مالاً.. ولا يمكنُه العودةَ
وبَسَطَ الليلُ جناحَ العتمةِ. أنوارُ البيوتِ أخذت تنطفئُ.. وحسانُ أغفى
لكنَّ زوجتهُ جلستْ عند طرفِ السريرِ تفكّرُ في غيابِ ولدِها باسم. مرَّ الليلُ بطيئاً
ومع قدومِ الصباحِ انطلقَ حسانُ مْنَ جديدٍ في رحلةِ البحثِ وزوجتهُ اختارتْ طريقاً آخر
وفي القريةِ، قربَ جذعِ شجرةِ الأحلام أمضى باسمُ ليلتَهُ. ومع إطلالةِ الفجرِ شاهَدُه صديَقه نجيب
لم يحضرْ إليهِ إنما أسَرعَ مُتلهفاً يخبرُ بقيةَ الأصدقاءِ. وبَعد قليلٍ كانَ الخمسةُ يضمُّهم عناقُ شوقٍ ولهفةٍ
ثم مدَّ كلُّ منهمُ يده إلى ورقةِ أحلامه، فأخرجَها ورسَم ابتسامة إلى جوارِ آخرِ حلمٍ كتبَهُ
أخبَر باسمُ أصدقاءَهُ بالإشارةِ أنَّه لن يعيشَ حياتَهُ بعيداً عنهم.. عن القريةِ.. عن شجرةِ الأحلامِ
بعد أن جلسُوا حاولَ الأصدقاءُ مواساته والتخفيف عنه. ورغمَ إلحاحِهم أن يرافِقَهُم إلى أي بيتٍ
من بيوتهم إلا أنه أصرَّ أن يبقى إلى جوارِ الشجرةِ. فلديه الكثيرُ من الأحلامِ التي يجبُ عليهِ كتابتها
أحضرَ الأصدقاءُ لباسمَ الطعامَ والماءَ، ورجاهُم ألا يخبرُوا أحداً بوجودِه خشية أن يُرسلُوا في طلبِ
والدهِ الذي سيصحبهُ من جديد إلى المدينةِ وهذا ما يرفُضُه أبلغهم أنه سيبقى
في الحديقةِ فالجّو الربيعي سيساعدُهُ. وما انقضتْ ساعاتُ النهارِ حتى وصلت أم
باسم إلى القريةِ. انتقلتْ إلى الحديقةِ. لم تُفاجأ وهي تراقبُ ولدهَا المتكئ إلى جذعِ شجرةِ الأحلام
أسرعتْ إليهِ. حاولَ أن يهربَ، إلا أنها أخذتْ تشيرُ إليهِ أنها لن تعودَ إلى المدينةِ بعد الآن
ضمتهُ إلى صدرها. وفي المدينةِ، حينَ عادَ حسانُ إلى بيتهِ قرأ رسالةً كتبتها زوجتهُ قبلَ أن تغادرَ قالت فيها
إنني واثقةٌ من و جودِ ولدي في القريةِ حيثُ الأصدقاءُ الذين يحبهم ويحبونه وحيثُ شجرة الأحلام
التي لا يمكن لباسم أن يعيشَ بعيداً عنها. إنني اخترتُ البقاءَ إلى جانبِ ولدي في القريةِ وسنكونُ
سعيدين إن قررتَ اللحاقَ بنا.. إننا ننتظركَ) فكرَ حسانُ، حدثَ نفسه
ما الذي جعلَها واثقة من وجودِه في القريةِ؟.. ثم ما حكايةُ شجرةِ الأحلام؟ يبدو أنني تصرفتُ بأنانية
بعد قليل أخذَ يجمعُ بعض الأوراقِ في حقيبتهِ، واستقلَّ سيارةَ أجرةٍ سارت به في طريقِ العودةِ
إلى القريةِ وحينَ وصلَ كانت ابتسامتُه تقولُ لزوجتِه: لقد قررتُ أن أكونَ معكم
سأَلَها: أين باسم؟ فردتْ: إنهُ نامَ بعد أن أحسَّ بالأمانِ. وروتْ لـه كيفَ تَمَكَّنَ باسمُ
من العودةِ إلى القريةِ. إنه كتبَ اسمَ قريتِه على ورقةٍ وأخذَ يُريها لأناسٍ ساعدُوه حتى
وصلَ مركزَ الانطلاقِ، ثم ركبَ إحدى الحافلاتِ التي ستنطلقُ إلى القرية بعدَ أن أشارَ للسائقِ
أنَّهُ لا يملكُ نقوداً، فسامَحَهُ السائقُ. قال حسانُ: وما حكايةُ شجرةِ الأحلام
أم باسم: إنها شجرةُ زيتونٍ خضراءَ فتيةٍ عندَ طرفِ الحديقةِ اختارَ باسمُ وأصدقاؤُه أغصانَها
مخبأً لأحلامِهم.. قال حسانُ: أريدُ أن أراها الآن.. أريدُ أن أتعرفَ إلى أحلامِ ولدي ورفاقِه.
أم باسم: وأنا معك
وعندَ شجرةِ الأحلامِ وقفَ حسانُ وإلى جوارهِ زوجتُه. فتشَ عن أوراقِ الأحلامِ وحينَ وجدها
قرأَ بدايةَ الورقةِ التي سطرَ فيها ولدُه باسمُ أحلامَهُ. كان في مقدمتها حُلمٌ بعودةِ الأبِ سالما
من بلاد الغربةِ، ثم حلم أن يتمكنَ يوماً من التحدثِ والسمع مثل الناس، وحلم باستمرار صداقته
مع نجيب وسعد ورافع وعمار وآخرين وأن تتحققَ أحلامُ الأصدقاء
وأن تعودَ عافيةُ صديقهِ عمار وأن يكونَ كاتباً في المستقبل، وقرب النهاية سجلَ حلَمه
أن يغيرَ والدهُ قرارَ الانتقال إلى المدينةِ. انتقلَ بعدَها لقراءةِ ما كتبَ أصدقاءُ ولدهِ
لفتَ انتباهَهُ أن أحلامَهُم جميعها تبدأ بحلمِ عودةِ والدِ باسم، ثم قرأ أحلاماً ترسمُ صُورَ البراءة
فسعدُ حَلُمَ أن يرى والده وقد وجدَ عملاً مريحاً يخففُ من متاعبهِ، وحَلُمَ رافعُ أن يرى أسرَتهُ تنتقل
إلى مسكنٍ جديدٍ يكونُ ملكاً لهم ليرتاحُوا من التنقلِ من منزلٍ مستأجرٍ إلى آخر
أما نجيبُ فقد حلم أن يتمكنَ شقيقُهُ من متابعةِ دراستهِ الجامعيةِ وهو الطالبُ المجدُ حيثُ
يقفُ المالَ عائقاً في سبيلهِ، وعمارُ حلم أن يتمكنَ والده من إجراءِ عمليةٍ جراحيةٍ لوالدتهِ
التي تعاني من مرضٍ في القلب. أعادَ حسانُ أوراقَ الأحلام إلى أغصانِها
وعادَ برفقةِ زوجتهِ إلى البيتِ. وحينَ قدمتْ لـه فنجاناً من القهوةِ انتبهَتْ لشرودِهِ
قالت لـه مبتسمةً: هل أعجبتكَ فكرةُ الأحلامِ
ردَّ عليها: أجل. وأفكرُ كيفَ سأدخلُ السعادةَ إلى قلوبِ هؤلاءِ الأطفال
لقد حلمتُ كثيراً حين كنتُ صغيراً مثلهم. جميع الأطفالِ يحلمون
سأفعلُ ما بوسعي لتحقيقِ ما أستطيعُ من أحلامِهم.
زارَ حسانُ المدينةَ من جديدٍ، وقررَ أن يوكلَ أمرَ المشروعِ التجاري لصديقه
عادل فهو سيبدأُ العملَ في مشروعٍ زراعي في القريةِ. بعد ذلك تحدث حسانُ
عن حلمهِ في إسعاد الأطفال وفكرته في إنشاءِ جمعيةٍ ترعى أحلامهم وتعملُ على
تحقيقها يسميها (جمعية أحلام الأطفالِ). استمعَ عادلُ إلى حديثِ حسان
أبدى إعجابَهُ الشديد وتأييدَهُ المطلق لَفكرتِه، واتفقا على دعوةِ بعض
الأصدقاءِ للمساهمةِ في تأسيسِ الجمعيةِ
مضتْ أيامٌ قليلةٌ استعادَ خلالَها باسمُ وأصدقاؤهُ ألقَ صداقتِهم وعادُوا لِلهْوَهِمْ ومَرَحِهِمْ
بعدَ شهرين، وخلالَ اجتماعِ الأصدقاءِ الخمسةِ قربَ شجرةِ الأحلام بدتِ السعادةُ
والدهشةُ على وجهِ سعدٍ. قالَ وكتبَ: لقد وجدَ أبي عملاً مُريحاً وبأجرٍ ممتازٍ
وذلك بفضل جمعيةٍ اسمُها جمعيةُ أحلامِ الأطفال.
وقالَ نجيبُ وكتبَ: تلقَّى شقيقي رسالةً من جامعةِ الأمانةِ تبلغه أنَ عليهِ الالتحاق
بالجامعةِ لمتابعةِ تحصيلهِ العلمي، وحينَ زارَ شقيقي مقرَّ الجامعة أخبَرُوهُ أنَّ جمعية
أحلام الأطفال سددتْ عنُه رسوم التسجيلِ والدراسةِ، ودفعتْ ثمنَ الكتبِ.
تفاوتتْ مشاعرُ الأصدقاءِ بين الدهشةِ والفرح وعادَ كلٌّ منهم إلى بيتِ أسرته
كان باسمُ سعيداً، أخذَ يُشيرُ أمامَ والدَيْهِ ما يعني أن ابتسامات أصدقائِه بما تحققَ أروع
ما كان يَحلمُ برؤيته. تبادلَ والدا باسم النظرات والابتسام، واحتضنا وَلدهما، وحينَ أفلتَ منهما
ودخلَ غرفتَهُ قالت أم باسم: ما تُقدمُ عليهِ مع أصدقائِكَ رائعٌ يا حسان
فأجابها: ما زالَ لدْينا الكثير. سنحاولُ فِعل أيّ شيء يُسعدُ الأطفالَ
ليسَ أصدقاءُ باسم وحسب إنما الكثيرُ من الأطفالِ غيرهم. فأنتِ تعلمينَ أنّ عددَ أعضاءِ الجمعية
يزداد، وقدرتُنَا على زرعِ الابتساماتِ على وجوهِ الأطفالِ تكبر.
ومرت الأيامُ. المشروعُ التجاريُّ الذي يديُرُهُ عادل شريكُ وصديقُ حسان تألقَ
ومزرعته أخذتْ تنتجُ أجودَ الثمارِ، وتحقُق الكثيرَ من أحلامِ الأطفال
كبرَ باسمُ وسعدُ ونجيبُ ورافعُ وعمارُ.. كبرتْ شجرةُ أحلامهم، وبقيت رفيقتُهُم الدائمة، وبعد مضيِّ ثلاثِ سنوات
أي عندما تجاوزَ الأصدقاءُ الرابعةَ عشرةَ عَلم باسمُ أنَ من أسعدَ أصدقاءَهُ وأطفالاً كثر آخرين هو والده
من خلال تأسيسهِ جمعيةَ أحلام الأطفال. فرَح كثيراً لكنَّه لم يُخبر أصدقاءَهُ
وصمَم أن ينضمَ حين يكبر إلى جمعيةِ أحلامَ الأطفال وسيكتُبُ قصةً عن والدهِ وهذه الجمعية
وأصدقائه وشجرةِ الأحلامِ. أجل.. فمن الأحلام التي قرَّرَ أن يحققَها بنفسه ودون
مساعدةٍ أن يُصبحَ كاتبَ قصةٍ، وسيبدأ العمل من أجلِ ذلك منذُ الآن